إماطة اللثام عن (قضية دارفور) وإسدال ستار (التفاوض ) في أبوجا ( 1 ـ 3 )
ثمة مطالب قدمت في أبوجا من ( حاملي السلاح في دارفور ) وهي تمثل إجماع أهل دارفور ، بغية حل وتدارك الأزمة المستفحلة في الإقليم سلمياً ، وتمثلت تلك المطالب في المطالبة بإعطاء أهل الإقليم نائب لرئيس الجمهورية ، إرجاع إقليم دارفور بحدوده الجغرافية مثلما كان عليها في 1ـ 1 ـ 1956م حين بزوغ فجر إستقلال السودان ، توحيد ولايات دارفور الثلاث في إطار إداري كمستوى ثاني للحكم في السودان تحت مسمى إقليم دارفور ، مشاركة أهل دارفور في إدارة العاصمة القومية الفيدرالية ( الخرطوم ) وفق الثقل السكاني لأبناء دارفور داخل العاصمة ، مشاركة أهل دارفور في المؤسسات التشريعية القومية ( البرلمان ـ مجلس الولايات ) مشاركة فاعلة تتناسب نسبياً مع كثافة سكان دارفور من الكثافة السكانية الكلية للسودان ، مشاركة أهل دارفور في السلطة التنفيذية الإتحادية مشاركة تعبر عن درجة التخلف الذي مني به الإقليم منذ الإستقلال و تناسباً مع الثقل السكاني لأهل الإقليم من الثقل السكاني القومي ، فضلاً عن تخصيص جزء من ميزانية الدولة لتعويض المتضررين عما لحق بهم جراء إستفحال الأوضاع وتأزمها في دارفور ، وتخصيص جزء من ميزانية الدولة لإعادة تعمير ما دمرته الحرب من خدمات ، وشملت تلك المطالب أيضاً الإبقاء على قوات ( حاملي السلاح ) طيلة أمد الفترة الإنتقالية لمراقبة تطبيق الإتفاق الذي يؤمل أن يوقع ، وحوت أيضاً مقترحات عدة لتقاسم الثروة والمنتجات وعائداتها بين الإقليم وبقية الأقاليم والمركز ( السلطة الإتحادية ) . أما الجانب الآخر في التفاوض بأبوجا ( الحكومة ) أيضاً قدمت ما يليها من رؤى لحل ( قضية دارفور ) متمثلة في الورق الذي قدمه وفدها المفاوض ، وما يعاب في ذلك هو عدم تخصيص ( الحكومة ) لنسب معينة ومعايير محددة لمشاركة أهل إقليم دارفور ، سواءً كان في السلطة الإقليمية أو السلطة الإتحادية أو التشريعية القومية ، بل جاءت رؤى الحكومة ( حديث نظري ) فقط مما وضع كثيراً من علامات الإستفهامات في نوايا الحكومة حيال قضية دارفور . وهذه النظرتان المتباعدتان ـ لحد ما ـ بين ( الحكومة ) و( حاملي السلاح ) ، كان من الطبيعي ومن الضرورة بمكان أن تحتم على الإتحاد الإفريقي ( وسيط وراعي التفاوض ) أن يضطلع بدور متعاظم بغية تقريب وجهات النظر بين الفرقاء وصولاً إلى صياغ توافقي يرضي الطرفين ومن ثم يعجل بتوقيع الإتفاق الذي يفضي إلى سلام ومن ثم إلى تدارك الأوضاع الإنسانية المهولة والمأزومة في إقليم دارفور . من هذه المنطلقات جاءت ( وثيقة ) سلام دارفور ، المقدمة من ( الإتحاد الإفريقي ) لطرفي التفاوض بغية التوقيع عليها لطي ملف التفاوض الذي ظل لخمس أشهر يبارح مكانه ولطالما هنالك ( هوة ) مستعصية جعلت من التوصل إلى سلام أمنية بعيدة المنال أو نسيج من وحي الخيال والعيش في أضغاث الأحلام من كلا الجانبين ، لذلك شملت ( وثيقة الإتحاد الإفريقي ) على إعطاء أهل دارفور منصب مساعد لرئيس الجمهورية مع إعتباره الرجل الرابع في الدولة يلي الرئيس ونائبيه ، وكذلك إعطاء أهل دارفور من حملة السلاح منصب وال واحد من ولاة دارفور الثلاث ، وإعطاء أهل دارفور ثلاث وزراء في السلطة الإتحادية ومثلهم وزراءً بالدولة ، وإعطاء منصب وزيراً ولائياً واحداً بالعاصمة ( الخرطوم ) لأهل دارفور ، وإثنا عشرة مقعداً لأهل دارفور في المجلسين التشريعيين القوميين ، ودمج قوات حملة السلاح من أهل دارفور في القوات المسلحة الحكومية ومثلهم مليشيات الجنجويد والمليشيات الأخرى ، أما فيما يختص بالثروة فجاءت أيضاً ورقة الإتحاد الإفريقي مخيبة للآمال وتجاهلت النسب المئوية أو الغوص في أغوار تفاصيلها التي كانت من الضرورة بمكان لتفادي الأخطاء التي حدثت من ذي قبل في إتفاقية نيفاشا . وقبل أن أدلف لإجراء مقارنة بين ما طرح من طرفي التفاوض وما قدم من الإتحاد الإفريقي وطموح أهل دارفور وإعلان المبادئ الموقع في أبوجا بتاريخ 5 يوليو 2005م بين الحكومة وحاملي السلاح من أهل دارفور ، لابد لي من أن أنبري ولو قليلاً لإستذكار مكونات قضية دارفور وليس إستعراضها أو الإسهاب فيها أو الإستطراد ، ولعل الجميع يدري أن بدارفور ( قضية ـ كارثة ـ فجيعة ـ أزمة ـ مشكلة ) ، تتفرع سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً وأمنياً وتنموياً وثقافياً ، ولكن تختلف المناظير التي تنظر من خلالها أبعاد دارفور ، فمن الناس من ينظر إليها من منطلق ( قبلية ) وآخر ينظر لها من منطلق ( جهوية ) وثالث ينظر لها بإعتبارها ( سياسية قومية ) وآخر ينظر لها دون هذا وذلك . ولعل المنظار الحقيقي لنظرة ( قضية دارفور ) هو المنظار ( السياسي القومي ) بإعتبارها قضية سياسية وقومية ، وهذا ما ظللنا نؤكده على الدوام منذ إنطلاقة الشرارة الأولي في دارفور مطلع العام 2003م ، وكنا ننبه ( الحكومة ) وقتذاك من مغبة إستخدامها للخيار العسكري لحسم القضية وعدم إستبانتها لنصحنا إلا بعد ضحى الغد ـ وهذا ما قد كان ـ بدءً رفضت الإنصات لصوت العقل والإصغاء لمطالب أهل دارفور الي كانت في تلك الأثناء لا تتعدى التنمية والخدمات الأساسية وضروريات الحياة ، وآخيراً إستجابة غصباً للجلوس في تفاوض والإستماع إلى المطالب التي إزدادت سقوفاً تفاوضية مع مرور الزمن ولربما تصل إلى المطالبة برئاسة الجمهورية إذا فشلت أو إنهارت الجولة الحالية للتفاوض في أبوجا . كما أسلفت لطالما أن قضية دارفور سياسية فكان من الطبيعي بمكان أن تحل في إطار تفاوضي وهو الماثل أمامنا الآن في أبوجا تحت رعاية الإتحاد الإفريقي وتشريف الإتحاد الأوربي والأمم المتحدة بمنظماتها المتعددة وواجهاتها المنبثقة وأسمائها المتعددة فضلاً عن وجود الدول العظمي ذات النفوذ العالمي والإهتمام بالشأن السوداني مثل بريطانيا وأمريكا اللتان دفعتا في الأيام الأخيرة الماضية بكبار مسؤليهما في وزارات خارجية البلدين لأبوجا في إطار ممارسة المزيد من الضغوطات على أطراف التفاوض بغية تقديم التنازلات المطلوبة للتوصل إلى سلام . فمنذ إلتئام مفاوضات أبوجا وحتى اللحظة لا زالت تبارح مكانها ، رغم الضغوطات التي تمارس من الإتحاد الإفريقي راعي التفاوض وشركاء التفاوض المتواجدون حيث أبوجا مكان المفاوضات ، وما برح وفتئ الإتحاد الإفريقي في أن يقدم رؤى توفيقية لتضميد وتجسير هوة الإختلافات وتقديم التنازلات اللازمة لإختراق جمود التفاوض ، ومع ذلك لم يستطيع الإتحاد الإفريقي أن يقدم قيد أنمل من تقدم ـ ولو طفيف ـ في كافة ملفات التفاوض ( السلطة ، الثروة ، الترتيبات الأمنية ) . وفي خضم ذلك إستعرضت وتناولت في مبتدأ المقال ، الوثيقة التي قدمها الإتحاد الإفريقي ، والتي جاءت على النقيض من إعلان المبادئ الذي ينص في كثير من فقراته على إعتماد معايير الكثافة السكانية للمشاركة في المؤسسات التنفيذية والتشريعية القومية منها والإقليمية ، كما أن ورقة الإتحاد الإفريقي جاءت متجاهلة لكثير من المطالب التي تقدم بها ( حاملي السلاح ) بما يعد مؤشر سالب تجاه إجماع أهل دارفور الذين أجمعوا وثمنوا وأمنوا المطالب التي قدمت من حاملي السلاح بإعتبار أنها ليس مطلب حماة السلاح فقط ولكنها مطلب شعب ، وهذا يستقرأ من ميثاق فعاليات دارفور الذي وقعت عليها جميع الشرائح المكونة لمجتمع دارفور من ( طلاب ـ شباب ـ مرأة ـ إدارات اهلية ـ محامين ـ إعلاميين ـ صحفيين ـ نازحين ـ حملة سلاح ) بتاريخ 1و2مايو الجري في أبوجا والخرطوم . أما الإتحاد الإفريقي من جانبه منح طرفي التفاوض ( الحكومة والحركات المسلحة ) مهلة ( 48 ) ثماني وأربعين ساعة فقط للتوقيع على الوثيقة أو الرفض ، ومضت الـ ( 48 ) ساعة دونما تقدم ، فإستأنف الإتحاد الإفريقي ومنحهم ( 24 ) ساعة جديدة وكذلك لا جديد ثم تلتها ( 24 ) ساعة أخرى ولا جديد ، بيد أن ما نما إلى مسمعنا يقول أن الحكومة إلتزمت أنها ستوقع على الوثيقة المقدمة من الإتحاد الإفريقي لوحدها حتى لو لم يوقع عليها حاملوا السلاح ، ولا أظنها تفعل ، لأن الإتفاق والوفاق يتأتى بتراضي وقبول من كافة الأطراف ، ثم أضاف آخيراً وليس آخراً الإتحاد الإفريقي ( 24 ) ساعة جديدة ويستمر المسلسل في نفس المنحى وذات المنوال لطاما إتخذ كل من طرفي التفاوض موقفه حيال الوثيقة . فالحركات المسلحة أعلنوا عن رفضهم القاطع والنهائي للوثيقة جملةً وتفصيلاً ولو أدى ذلك لرجوعهم للمربع الأول ( حيث الحرب ) وبرهنوا ذلك بتخطي الوثيقة لكافة الخطوط الحمراء التي لا يمكنهم تجاوزها وتقاضي الوثيقة عن مطالبهم الأساسية في التفاوض ، بل ذهبوا لأكثر من ذلك ووصفوا الإتحاد الإفريقي بالتواطؤ مع الحكومة وطالبوا الأمم المتحدة بتنهيته من ولاية رعاية المفاوضات أو القيام بدور الوسيط للتفاوض ، وإوكال تلك المهام لمجلس الأمن الدولي . والحكومة من جانبها تكاد تطير فرحاً لأن رياح الإتحاد الإفريقي جاءت بما تشتهي سفنها ، لذلك وجدت الحكومة نفسها في موقع لا تحسد عليه ، وتفاءلت كثيراً ( كما يقول عرابوها ) بتحقيق السلام في غضون أيام ، ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن على عجالة لماذا أمنت الحكومة على وثيقة الإتحاد الإفريقي حتى قبل أن تطبع بالعربية وعقب ثلاث ساعات فقط منذ توزيعها ؟؟ وهل هنالك أمراً ما لربما وقع بين الإتحاد الإفريقي والحكومة ؟؟ ودى إرتباط ذلك بالإتهامات التي وجهها حاملوا السلاح للإتحاد الإفريقي بشأن تواطؤه مع موقف الحكومة؟؟ . أما المجتمع الدولي الذي ظل ولا يزال يدفع برخاء لإستضافة المتفاوضين وترحيلهم من وإلى أبوجا ، من جانبه لا يزال يمارس الضغط المستميت حتى النخاع بغية إسدال ستار التفاوض بأي ثمن ، لأنه يئس من تطاول أمد الجولات دون تحقيق ـ ولو الحد الأدنى ـ من الهدف المنشود والحلم المرجو ( السلام ) ، لذلك ، كل من تمحص وتفحص معطيات ودلالات الواقع تشير إلى تفاؤل مرتبط بالإحباط وإحباط مربوط ببصيص تفاؤل ، لأن إستقراء الواقع ينأى بنفسه لصعوبة إسدال ستار التفاوض في أبوجا دون تعديل وثيقة الإتحاد الإفريقي ـ ولو جزئياً ـ لكيما تشمل الحد الأدنى من مطالب أهل دارفور التي يعبر عنها حاملوا السلاح . هذه المعادلة الصعبة بالضرورة وضعت ( الإتحاد الإفريقي ) وقادته في موقف حرج في ظل ظروف دقيقة وحساسة من عمر وسفر قضية دارفور ، إما أن يعلن الإتحاد الإفريقي فشل وإنهيار المفاوضات وينفض يديه ويسلم الملف والمهم للأمم المتحدة ويصبح متابعاً فحسب ، أو ان يواصل رعاية المفاوضات وقيامه بإعباء وساطة التفاوض بين الأطراف ومحاولة إنتزاع التنازلات من كلا الطرفين وصولاً للإتفاق الذي يرضي الجميع ويفضي إلى السلام المرتقب ، وكلا الخيارين أيضاً من الصعوبة بمكان على الإتحاد الإفريقي أن يقوم بإحداهما ، لأن الأول يدل على فشل الأفارقة في إحتواء وتدارك إشكالياتهم داخل القارة وكذلك فشلهم في الإضطلاع بدور لإصلاح ذات بينهم أو رأب الصدع الإفريقي إن وجد ، والخيار الآخر يحتاج إلى عزيمة وتصميم أكثر من ذي قبل مما يسهم في خلق وفاق وتوافق يفضي إلى سلام . سيتواصل المقال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق